صدر في بيروت عن دار زمكان، في أيار/مايو 2023، كتاب “مواقف في مناهضة الإسلاموفوبيا” لنخبة من المفكرين والحقوقيين العرب. ولعل ما جاء في خاتمة الكتاب يلخص الكثير مما جاء فيه:
“تملأ الإسلاموفوبيا الفضاء اليوم، وتسممه، فهي تتصل بنظرية صراع الحضارات، وتكشف خفايا الوعي الباطن للغرائز البدائية، تعيد الاعتبار للشعبوية وكراهية المختلف، وتتكشف فيها تناقضات العولمة، وتستفز الأصوليات. غير أنها تكشف فوق ذلك أن الهويّات الملتبسة تهدّد الحضارة التي تزعم صونها.
ليس بالإمكان التعامل مع هذه الآفة دون مقاربة نقدية متعددة الميادين، ومن أفضل لهكذا تناول، من مناضلين ومناضلات جمعوا بين البحث والعصف الذهني، والنضال اليومي لمكافحة العنصرية بمختلف تعبيراتها. وتابعوا تحوّل الإسلاموفوبيا، في حياتهم اليومية إلى وباء يجتاح القارة الأوربية في مراحل انتقال وجودية، تتصارع فيها القيم التي جعلتها رمزا للتنوير والحرية، مع أكثر أسلحة الدمار الشامل بشاعة: اعتبار “الآخر” سببا لكل العاهات وأمراض الشيخوخة التي تجتاحها.
إثر إعلان الأمم المتحدة 15 آذار/مارس يوما عالميا لمكافحة الإسلاموفوبيا، اجتمعت نخبة من هؤلاء في ندوة بحثية في جنيف بدعوة من “المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان/مؤسسة هيثم مناع” و”مركز جنيف للديمقراطية وحقوق الإنسان” و”منظمة الدفاع عن ضحايا العنف” و”اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”، لاستعادة صفحات من هذا النضال على الصعيدين الفكري والعملي، يجمع بعض محطاتها هذا الكتاب.
كان لي شرف المشاركة في هذه الندوة، وكنت بين المشاركات والمشاركين، آخر من وضع قدمه في القارة الأوربية لاستكمال دراستي العليا، فبعضهم يعيش فيها منذ أربعين عاما، وكما قال أحد المشاركين: “لقد تابعت هذا الوحش المسمى رهاب الإسلام قبل أن تصبح أسنانه أنيابا كاسرة”. وكم تمنيت وقلت ذلك في نهاية الندوة: من الضروري تنظيم ندوات مشابهة في عموم الدول الأوربية.
يعطي الدكتور هيثم مناع في مداخلته ما يهدف إليه هذا العمل الجماعي والذي ضم أطيافا فكرية متعددة بالقول: “لأننا نعتبر الإسلاموفوبيا ، كما كان العداء للسامية من قبل، سلاح دمار شامل في وجه خصب وتنوع وتلاقح وإبداعات النسيج المجتمعي، فإن مهمتنا الفكرية والحقوقية تقوم على تفكيك منطق صراع الثقافات وإلحاق الهزيمة بالممارسات العنصرية والتكفيرية التي ينتجها وأي شكل من أشكال التمييز الثقافي والاجتماعي والسياسي. وأخيرا، وليس آخرا، الحرص ليس فقط على الكرامة الإنسانية لكل أبناء الجنس البشري وإنما على اعتبار هذه الكرامة وحدة متجانسة متكاملة متنصبة فوق الحدود والأجناس والألوان والأديان، ولكن أيضا، وقبل كل شيء، فوق كل الجرائم ضد الإنسانية التي يمارسها “أنموذج فيه انتهى التاريخ” و”هوية متفوقة” في بؤس منتجاتها العنصرية، الصغيرة والكبيرة”.
نلاحظ في الفصول الأربعة التي حررها الدكتور مناع أربعة محاور: 1- كإشكالية تمس في الصميم الحديث الغربي اليومي في “حقوق الإنسان”، وبالتالي ازدواجية المعايير وانتقائية المفاهيم وعدم احترام الغربيين لخطابهم المعلن كمدافعين عن الحقوق الإنسانية، 2- منطلقات “الديمقراطية العلمانية” الأساسية في أوربة، وانحناء العلمانيين الاستئصاليين أمام رياح الشعبوية، 3- الإسلاموفوبيا باعتبارها أكثر أشكال العنصرية توسعًا وانتشارًا في أوربة، 4- ومهادنة وتأييد الأطروحات العنصرية الجديدة مثل “صراع الحضارات”. وصولًا إلى استحالة الجمع بين خطاب يتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية وحوار الحضارات من جهة، وبين رهاب الإسلام الذي تعدى الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى أوساط اجتماعية مختلفة.
أما الدكتور محمد حافظ يعقوب، وفي مقاربة تاريخية سوسيولوجية يقول: “ليس السؤال من زوائد الأمور. فقد صار القول إن الإسلام يشكل تهديدًا وجودِيًا لأوروبا من نوافل الكلام. وغدت الريبة بالمسلمين وتوجيه الإتهام لهم من “طبائع” الأشياء. ألم يحذّر مؤسس أسبوعية لونوفيل أوبزرفاتور العجوز جان دانييل Jean Daniel في افتتاحيته بتاريخ 24/12/2014 من أنه يلاحظ “بخوف ورعب” كيف أن اللاسامية يجري استعواضها شيئًا فشيئًا بالإسلاموفوبيا. وعلى غرار جان دانييل، بيّن صديقنا الراحل إيلان هاليفي في كتابه الممتاز الذي نُشر بعد وفاته (رُهابُ الإسلام ورُهاب اليهودية)، بيّن، بالدليل القاطع، شَبَهَ رُهابِ الإسلام اليوم برُهاب اليهودية في سنوات الثلاثينيات من القرن العشرين شبه الماء بالماء كما قال. يكتب إلان هاليفي: أريد أن أوضّح هنا أن كراهية المسلمين اليوم تشبه شبهاً كلياً نظيرتَها كراهية اليهود المسماة باللاسامية: تقوم بنفس الوظيفة، وتُعامَلُ بنفس الطريقة، وتلعب الدور الاجتماعي نفسه ولكن في سياق تاريخي مختلف.
في حديثه عن الصور النمطية الموروثة والمستجدة، يقدم الدكتور فيصل جلول مقاربة تاريخية يقول في تقديمها: “ليست ظاهرة “الإسلاموفوبيا” مستجدة في أوروبا والغرب بخاصة، وفي أنحاء متفرقة من العالم عموما، فهي تكاد أن تكون مرتبطة بظهور الإسلام ومترافقة مع فتوحاته الأوروبية، وما تلاها من حروب صليبية وصولًا إلى الفترة الكولونيالية التي خضع خلالها القسم الأكبر من البلدان الإسلامية للاستعمار القديم ومن ثم المُقَنّع. في مجمل تلك الحقبان التاريخية، كانت تنتشر صورًا نمطية عن الإسلام والمسلمين لتقبيحهم وشيطنتهم وإثارة الكره والحقد حول معتقداتهم لدى العامة، مع اختلاف في عناوين الصور وليس في مضمونها. والاختلاف ناجم عن تغير مواقع الطرفين الأوروبي والمسلم خلال الألفيتين الأولى والثانية”.
عاد بنا الكاتب والصحفي رنيه نبعه إلى جذور الفوبيا (الرهاب) اللغوية والنفسية، ومنهج أعداء “الحق في الاختلاف” في صناعتها، وكأنها تزعزع ما يعتبر عندهم يقينا. وكيف تتم صناعة الفوبيا الضرورية وفق خدمة المنظومة السائدة: عربوفوبيا، إسلاموفوبيا…
أما الدكتور أنور الغربي،فاختار الحديث في “المسلمون في الغرب بين بروباغندا الإسلاموفوبيا وثقافة المواطنة. واختار الحالة الفرنسية نموذجا لمقاربته. وقدم إحصاءات تثير الخوف فعلا من التوظيف المفرط لموضوع رهاب الإسلام والترهيب منه مذكرا بأن التصدي للإسلاموفوبيا في فرنسا صار أمرا عاجلا وملحا : “في إحصائية رسمية صرح 42 % من الفرنسيين المسلمين أنهم تعرضوا للإقصاء مرة واحدة على الأقل في حياتهم بسبب دينهم، وتصل هذه النسبة إلى 60 % بالنسبة للفتيات والنساء المحجبات٠ وأن مئات الشكاوى تصل إلى الجمعيات المناهضة للعنصرية، وتصل إلى المحاكم التي تؤكد أحيانا تضاعفا خطيرا للإسلاموفوبيا. مضيفا: “من المفارقات أن تزايد الإسلاموفوبيا في فرنسا يترافق مع ازدياد حضور الكفاءات المسلمة في مواقع الاختصاص في الطب والهندسة والتكنولوجيا والبحث العلمي – أغلب هذه الكفاءات يأتي جاهزا للعطاء ويتعرض للسلوك المعادي رغم أن الخزينة الفرنسية لم تدفع سنتيما واحدا لتعليمه وتكوينه الباهض في بلده الذي جاء منه-، ناهيكم عمن استقدمته الدولة الفرنسية ومؤسساتها الاقتصادية للضرورة والحاجة لديها”.
يتعرض الدكتور فؤاد إبراهيم للأخطار المنظورة وغير المنظورة لخطاب الكراهية في الحالة البريطانية. ويعطي أمثلة عيانية عليها ليس فقط في الصحافة المسماة بالشعبية وإنما أيضًا في مواقع المسؤولية الحكومية. أما الإعلامي ناصر الأخضر فيتناول دور وسائل الإعلام في صناعة الكراهية وتغذيتها.
يختصر الدكتور حسن الفرطوسي مسيرة نضال الحقوقيين وما تمكنوا من الحصول عليه في مناهضة الإسلاموفوبيا في أروقة الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، مستعرضًا مختلف المراحل ومثبتًا لأهم التقارير والقرارات التي صدرت عن المنظمة الأممية ويعطي القارئ والمختص أرشيفا هاما يتوضح عبره أهمية التقارير الموثقة في مختلف الانتهاكات التي تتعرض لها الجاليات المسلمة في القارة الأوربية وعدد من دول العالم. أما الأستاذة هدى المصري، فقد تناولت في دراستها دور المجتمع المدني في الغرب في مناهضة الإسلاموفوبيا يدًا بيد مع المنظمات الحقوقية ومنظمات مناهضة العنصرية. وذكرت أمثلة على ذلك أهمها نشاط مؤسسات المجتمع المنفتح حول هذا الموضوع.
——————
مواقف في مناهضة الإسلاموفوبيا
مجموعة كتّاب
منشورات زمكان
بيروت 2023
148 صفحة
ممدوح القدسي